فصل: فَصْلٌ: الْحَيَاةِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين (نسخة منقحة)



.فَصْلٌ: الْحَيَاةِ:

قَالَ صَاحِبُ الْمَنَازِلِ:
بَابُ الْحَيَاةِ حَقِيقَتُهَا: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ}.
اسْتِشْهَادُهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي هَذَا الْبَابِ ظَاهِرٌ جِدًّا، فَإِنَّ الْمُرَادَ بِهَا: مَنْ كَانَ مَيِّتَ الْقَلْبِ بِعَدَمِ رُوحِ الْعِلْمِ وَالْهُدَى وَالْإِيمَانِ، فَأَحْيَاهُ الرَّبُّ تَعَالَى بِرُوحٍ أُخْرَى غَيْرِ الرُّوحِ الَّتِي أَحْيَا بِهَا بَدَنَهُ، وَهِيَ رُوحُ مَعْرِفَتِهِ وَتَوْحِيدِهِ، وَمَحَبَّتِهِ وَعِبَادَتِهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ؛ إِذْ لَا حَيَاةَ لِلرُّوحِ إِلَّا بِذَلِكَ، وَإِلَّا فَهِيَ فِي جُمْلَةِ الْأَمْوَاتِ، وَلِهَذَا وَصَفَ اللَّهُ تَعَالَى مَنْ عُدِمَ ذَلِكَ بِالْمَوْتِ، فَقَالَ: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ}، وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ} وَسُمِّيَ وَحْيُهُ رُوحًا، لِمَا يَحْصُلُ بِهِ مِنْ حَيَاةِ الْقُلُوبِ وَالْأَرْوَاحِ، فَقَالَ تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} فَأَخْبَرَ أَنَّهُ رُوحٌ تَحْصُلُ بِهِ الْحَيَاةُ، وَأَنَّهُ نُورٌ تَحْصُلُ بِهِ الْإِضَاءَةُ، وَقَالَ تَعَالَى: {يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ}، وَقَالَ تَعَالَى: {رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ} فَالْوَحْيُ حَيَاةُ الرُّوحِ، كَمَا أَنَّ الرُّوحَ حَيَاةُ الْبَدَنِ، وَلِهَذَا مَنْ فَقَدَ هَذِهِ الرُّوحَ فَقَدْ فَقَدَ الْحَيَاةَ النَّافِعَةَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، أَمَّا فِي الدُّنْيَا فَحَيَاتُهُ حَيَاةُ الْبَهَائِمِ، وَلَهُ الْمَعِيشَةُ الضَّنْكُ، وَأَمَّا فِي الْآخِرَةِ فَلَهُ جَهَنَّمُ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَا.
وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ الْحَيَاةَ الطَّيِّبَةَ لِأَهْلِ مَعْرِفَتِهِ وَمَحَبَّتِهِ وَعِبَادَتِهِ، فَقَالَ تَعَالَى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} وَقَدْ فُسِّرَتِ الْحَيَاةُ الطَّيِّبَةُ بِالْقَنَاعَةِ وَالرِّضَا، وَالرِّزْقِ الْحَسَنِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَالصَّوَابُ: أَنَّهَا حَيَاةُ الْقَلْبِ وَنَعِيمُهُ، وَبَهْجَتُهُ وَسُرُورُهُ بِالْإِيمَانِ وَمَعْرِفَةُ اللَّهِ، وَمَحَبَّتُهُ، وَالْإِنَابَةُ إِلَيْهِ، وَالتَّوَكُّلُ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ لَا حَيَاةَ أَطْيَبُ مِنْ حَيَاةِ صَاحِبِهَا، وَلَا نَعِيمَ فَوْقَ نَعِيمِهِ إِلَّا نَعِيمَ الْجَنَّةِ، كَمَا كَانَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ يَقُولُ: إِنَّهُ لَتَمُرُّ بِي أَوْقَاتٌ أَقُولُ فِيهَا إِنْ كَانَ أَهْلُ الْجَنَّةِ فِي مِثْلِ هَذَا إِنَّهُمْ لَفِي عَيْشٍ طَيِّبٍ، وَقَالَ غَيْرُهُ: إِنَّهُ لَيَمُرُّ بِالْقَلْبِ أَوْقَاتٌ يَرْقُصُ فِيهَا طَرَبًا.
وَإِذَا كَانَتْ حَيَاةُ الْقَلْبِ حَيَاةً طَيِّبَةً تَبِعَتْهُ حَيَاةُ الْجَوَارِحِ، فَإِنَّهُ مَلَكَهَا، وَلِهَذَا جَعَلَ اللَّهُ الْمَعِيشَةَ الضَّنْكَ لِمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِهِ، وَهِيَ عَكْسُ الْحَيَاةِ الطَّيِّبَةِ.
وَهَذِهِ الْحَيَاةُ الطَّيِّبَةُ تَكُونُ فِي الدُّورِ الثَّلَاثِ، أَعْنِي: دَارَ الدُّنْيَا، وَدَارَ الْبَرْزَخِ، وَدَارَ الْقَرَارِ، وَالْمَعِيشَةُ الضَّنْكُ أَيْضًا تَكُونُ فِي الدُّورِ الثَّلَاثِ، فَالْأَبْرَارُ فِي النَّعِيمِ هُنَا وَهُنَالِكَ، وَالْفُجَّارُ فِي الْجَحِيمِ هُنَا وَهُنَالِكَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ}، وَقَالَ تَعَالَى: {وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ} فَذِكْرُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَمَحَبَّتُهُ وَطَاعَتُهُ، وَالْإِقْبَالُ عَلَيْهِ ضَامِنٌ لِأَطْيَبِ الْحَيَاةِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَالْإِعْرَاضُ عَنْهُ وَالْغَفْلَةُ وَمَعْصِيَتُهُ كَفِيلٌ بِالْحَيَاةِ الْمُنَغَّصَةِ، وَالْمَعِيشَةِ الضَّنْكِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.

.[الْحَيَاةُ الْمَقْصُودَةُ هُنَا ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ]:

.فَصْلٌ: [الْحَيَاةُ الْأُولَى حَيَاةُ الْعِلْمِ مِنْ مَوْتِ الْجَهْلِ وَهِيَ عَشْرُ مَرَاتِبَ]:

قَالَ صَاحِبُ الْمَنَازِلِ: الْحَيَاةُ فِي هَذَا الْبَابِ: يُشَارُ بِهَا إِلَى ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ، الْحَيَاةُ الْأُولَى: حَيَاةُ الْعِلْمِ مِنْ مَوْتِ الْجَهْلِ، وَلَهَا ثَلَاثَةُ أَنْفَاسٍ: نَفْسُ الْخَوْفِ، وَنَفْسُ الرَّجَاءِ، وَنَفْسُ الْمَحَبَّةِ.
قَوْلُهُ الْحَيَاةُ فِي هَذَا الْبَابِ مَرَاتِبُهَا يُرِيدُ: الْحَيَاةَ الْخَاصَّةَ الَّتِي يَتَكَلَّمُ عَلَيْهَا الْقَوْمُ دُونَ الْحَيَاةِ الْعَامَّةِ الْمُشْتَرَكَةِ بَيْنَ الْحَيَوَانِ كُلِّهِ، بَلْ بَيْنَ الْحَيَوَانِ وَالنَّبَاتِ، وَلِلْحَيَاةِ مَرَاتِبُ وَنَحْنُ نُشِيرُ إِلَيْهَا.

.الْمَرْتَبَةُ الْأُولَى: حَيَاةُ الْأَرْضِ بِالنَّبَاتِ:

قَالَ تَعَالَى: {وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ}، وَقَالَ فِي الْمَاءِ: {وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ}، وَقَالَ: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا} وَجَعَلَ هَذِهِ الْحَيَاةَ دَلِيلًا عَلَى الْحَيَاةِ يَوْمَ الْمَعَادِ، وَهَذِهِ حَيَاةٌ حَقِيقَةٌ فِي هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ، مُسْتَعْمَلَةٌ فِي كُلِّ لُغَةٍ، جَارِيَةً عَلَى أَلْسُنِ الْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ، قَالَ الشَّاعِرُ يَمْدَحُ عَبْدَ الْمُطَّلِبِ:
بِشَيْبَةِ الْحَمْدِ أَحْيَا اللَّهُ بَلْدَتَنَــا ** لَمَّا فَقَدْنَا الْحَيَا وَاجْلَوَّزَ الْمَطَرُ

وَهَذَا أَكْثَرُ مِنْ أَنْ نَذْكُرَ شَوَاهِدَهُ.

.الْمَرْتَبَةُ الثَّانِيَةُ: حَيَاةُ النُّمُوِّ وَالِاغْتِذَاءِ:

وَهَذِهِ الْحَيَاةُ مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَ النَّبَاتِ وَالْحَيَوَانِ الَّذِي يَعِيشُ بِالْغِذَاءِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ}.
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الشُّعُورِ: هَلْ تُحِلُّهَا الْحَيَاةُ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ، وَالصَّوَابُ: أَنَّهَا تُحِلُّهَا حَيَاةُ النُّمُوِّ وَالْغِذَاءِ، دُونَ الْحِسِّ وَالْحَرَكَةِ، وَلِهَذَا لَا تُنَجَّسُ بِالْمَوْتِ، إِذْ لَوْ أَوْجَبَ لَهَا فِرَاقُ النُّمُوِّ وَالِاغْتِذَاءِ النَّجَاسَةَ، لَنَجَسَ الزَّرْعُ وَالشَّجَرُ لِمُفَارَقَتِهِ هَذِهِ الْحَيَاةُ لَهُ، وَلِهَذَا كَانَ الْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ الشُّعُورَ لَا تَنْجُسُ بِالْمَوْتِ.

.الْمَرْتَبَةُ الثَّالِثَةُ: حَيَاةُ الْحَيَوَانِ الْمُتَغَذِّي بِقَدْرٍ زَائِدٍ عَلَى نُمُوِّهِ وَاغْتِذَائِهِ، وَهِيَ إِحْسَاسُهُ وَحَرَكَتُهُ، وَلِهَذَا يَأْلَمُ بِوُرُودِ الْكَيْفِيَّاتِ الْمُؤْلِمَةِ عَلَيْهِ، وَبِتَفَرُّقِ الِاتِّصَالِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَهَذِهِ الْحَيَاةُ فَوْقَ حَيَاةِ النَّبَاتِ، وَهَذِهِ الْحَيَاةُ تَقْوَى وَتَضْعُفُ فِي الْحَيَوَانِ الْوَاحِدِ بِحَسَبِ أَحْوَالِهِ، فَحَيَاتُهُ بَعْدَ الْوِلَادَةِ: أَكْمَلُ مِنْهَا وَهُوَ جَنِينٌ فِي بَطْنِ أُمِّهِ، وَحَيَاتُهُ وَهُوَ صَحِيحٌ مُعَافَى أَكْمَلُ مِنْهَا وَهُوَ سَقِيمٌ عَلِيلٌ.

فَنَفْسُ هَذِهِ الْحَيَاةِ تَتَفَاوَتُ تَفَاوُتًا عَظِيمًا فِي مَحَالِّهَا، فَحَيَاةُ الْحَيَّةِ أَكْمَلُ مِنْ حَيَاةِ الْبَعُوضَةِ، وَمَنْ قَالَ غَيْرَ هَذَا فَقَدَ كَابَرَ الْحِسَّ وَالْعَقْلَ.

.الْمَرْتَبَةُ الرَّابِعَةُ: حَيَاةُ الْحَيَوَانِ الَّذِي لَا يَتَغَذَّى بِالطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، كَحَيَاةِ الْمَلَائِكَةِ، وَحَيَاةِ الْأَرْوَاحِ بَعْدَ مُفَارَقَتِهَا لِأَبْدَانِهَا، فَإِنَّ حَيَاتَهَا أَكْمَلُ مِنْ حَيَاةِ الْحَيَوَانِ الْمُتَغَذِّي، وَلِهَذَا لَا يَلْحَقُهَا كَلَالٌ وَلَا فُتُورٌ، وَلَا نَوْمٌ وَلَا إِعْيَاءٌ، قَالَ تَعَالَى: {يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ} وَكَذَلِكَ الْأَرْوَاحُ إِذَا تَخَلَّصَتْ مِنْ هَذِهِ الْأَبْدَانِ، وَتَجَرَّدَتْ: صَارَ لَهَا حَيَاةٌ أُخْرَى أَكْمَلُ مِنْ هَذِهِ إِنْ كَانَتْ سَعِيدَةً، وَإِنْ كَانَتْ شَقِيَّةً كَانَتْ عَامِلَةً نَاصِبَةً فِي الْعَذَابِ.

.الْمَرْتَبَةُ الْخَامِسَةُ: الْحَيَاةُ الَّتِي أَشَارَ إِلَيْهَا الْمُصَنِّفُ، وَهِيَ حَيَاةُ الْعِلْمِ مِنْ مَوْتِ الْجَهْلِ، فَإِنَّ الْجَهْلَ مَوْتٌ لِأَصْحَابِهِ، كَمَا قِيلَ:

وَفِي الْجَهْلِ قَبْلَ الْمَوْتِ مَوْتٌ لِأَهْلِهِ ** وَأَجْسَامُهُمْ قَبْلَ الْقُبُورِ قُبُـورُ

وَأَرْوَاحُهُمْ فِي وَحْشَةٍ مِنْ جُسُومِـهِمْ ** فَلَيْسَ لَهُمْ حَتَّى النُّشُورِ نُشُـورُ

فَإِنَّ الْجَاهِلَ مَيِّتُ الْقَلْبِ ذَمُّ الْجَهْلِ وَالرُّوحِ، وَإِنْ كَانَ حَيَّ الْبَدَنِ فَجَسَدُهُ قَبْرٌ يَمْشِي بِهِ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا}، وَقَالَ تَعَالَى: {إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيُحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ}، وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ}، وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} وَشَبَّهَهُمْ- فِي مَوْتِ قُلُوبِهِمْ- بِأَهْلِ الْقُبُورِ، فَإِنَّهُمْ قَدْ مَاتَتْ أَرْوَاحُهُمْ، وَصَارَتْ أَجْسَامُهُمْ قُبُورًا لَهَا، فَكَمَا أَنَّهُ لَا يَسْمَعُ أَصْحَابُ الْقُبُورِ، كَذَلِكَ لَا يَسْمَعُ هَؤُلَاءِ، وَإِذَا كَانَتِ الْحَيَاةُ هِيَ الْحِسُّ وَالْحَرَكَةُ وَمَلْزُومُهُمَا، فَهَذِهِ الْقُلُوبُ لَمَّا لَمْ تُحِسَّ بِالْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ، وَلَمْ تَتَحَرَّكْ لَهُ: كَانَتْ مَيْتَةً حَقِيقِةً، وَلَيْسَ هَذَا تَشْبِيهًا لِمَوْتِهَا بِمَوْتِ الْبَدَنِ، بَلْ ذَلِكَ مَوْتُ الْقَلْبِ وَالرُّوحِ.
وَقَدْ ذَكَرَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي كِتَابِ الزُّهْدِ مِنْ كَلَامِ لُقْمَانَ، أَنَّهُ قَالَ لِابْنِهِ: يَا بُنَيَّ جَالِسِ الْعُلَمَاءَ، وَزَاحِمْهُمْ بِرُكْبَتَيْكَ، فَإِنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْقُلُوبَ بِنُورِ الْحِكْمَةِ، كَمَا يُحْيِي الْأَرْضَ بِوَابِلِ الْقَطْرِ، وَقَالَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ تَعَلَّمُوا الْعِلْمَ، فَإِنَّ تَعَلُّمَهُ لِلَّهِ خَشْيَةٌ، وَطَلَبَهُ عِبَادَةٌ، وَمُذَاكَرَتَهٌ تَسْبِيحٌ، وَالْبَحْثَ عَنْهُ جِهَادٌ، وَتَعْلِيمَهُ لِمَنْ لَا يَعْلَمُهُ صَدَقَةٌ، وَبَذْلَهُ لِأَهْلِهِ قُرْبَةٌ؛ لِأَنَّهُ مَعَالِمُ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، وَمَنَارُ سُبُلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَهُوَ الْأَنِيسُ فِي الْوَحْشَةِ، وَالصَّاحِبُ فِي الْغُرْبَةِ، وَالْمُحَدِّثُ فِي الْخَلْوَةِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ، وَالسِّلَاحُ عَلَى الْأَعْدَاءِ، وَالزَّيْنُ عِنْدَ الْأَخِلَّاءِ، يَرْفَعُ اللَّهُ بِهِ أَقْوَامًا، فَيَجْعَلُهُمْ فِي الْخَيْرِ قَادَةً، وَأَئِمَّةً تُقْتَصُّ آثَارُهُمْ، وَيُقْتَدَى بِأَفْعَالِهِمْ، وَيُنْتَهَى إِلَى رَأْيِهِمْ، تَرْغَبُ الْمَلَائِكَةُ فِي خُلَّتِهِمْ، وَبِأَجْنِحَتِهَا تَمْسَحُهُمْ، يَسْتَغْفِرُ لَهُمْ كُلُّ رَطْبٍ وَيَابِسٍ، وَحِيتَانُ الْبَحْرِ وَهَوَامُّهُ، وَسِبَاعُ الْبَرِّ وَأَنْعَامُهُ؛ لِأَنَّ الْعِلْمَ حَيَاةُ الْقُلُوبِ مِنَ الْجَهْلِ، وَمَصَابِيحُ الْأَبْصَارِ مِنَ الظُّلَمِ، يَبْلُغُ الْعَبْدُ بِالْعِلْمِ مَنَازِلَ الْأَخْيَارِ، وَالدَّرَجَاتِ الْعُلَى فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، التَّفَكُّرُ فِيهِ يَعْدِلُ الصِّيَامَ، وَمُدَارَسَتُهُ تَعْدِلُ الْقِيَامَ، بِهِ تُوصَلُ الْأَرْحَامُ، وَبِهِ يُعْرَفُ الْحَلَالُ مِنَ الْحَرَامِ، وَهُوَ إِمَامُ الْعَمَلِ، وَالْعَمَلُ تَابِعٌ لَهُ يُلْهَمُهُ السُّعَدَاءُ، وَيُحْرَمُهُ الْأَشْقِيَاءَ. رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَغَيْرُهُمَا، وَقَدْ رُوِيَ مَرْفُوعًا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْوَقْفُ أَصَحُّ.
وَالْمَقْصُودُ: قَوْلُهُ؛ لِأَنَّ الْعِلْمَ حَيَاةُ الْقُلُوبِ مِنَ الْجَهْلِ فَالْقَلْبُ مَيِّتٌ، وَحَيَاتُهُ بِالْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ.

.فَصْلٌ: الْمَرْتَبَةُ السَّادِسَةُ: حَيَاةُ الْإِرَادَةِ وَالْهِمَّةِ مَرَاتِبُ الْحَيَاةِ:

وَضَعْفُ الْإِرَادَةِ وَالطَّلَبِ: مِنْ ضَعْفِ حَيَاةِ الْقَلْبِ، وَكُلَّمَا كَانَ الْقَلْبُ أَتَمَّ حَيَاةٍ، كَانَتْ هِمَّتُهُ أَعْلَى وَإِرَادَتُهُ وَمَحَبَّتُهُ أَقْوَى، فَإِنَّ الْإِرَادَةَ وَالْمَحَبَّةَ تَتْبَعُ الشُّعُورَ بِالْمُرَادِ الْمَحْبُوبِ، وَسَلَامَةُ الْقَلْبِ مِنَ الْآفَةِ الَّتِي تَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ طَلَبِهِ وَإِرَادَتِهِ، فَضَعْفُ الطَّلَبِ، وَفُتُورُ الْهِمَّةِ إِمَّا مِنْ نُقْصَانِ الشُّعُورِ وَالْإِحْسَانِ، وَإِمَّا مِنْ وُجُودِ الْآفَةِ الْمُضْعِفَةِ لِلْحَيَاةِ، فَقُوَّةُ الشُّعُورِ، وَقُوَّةُ الْإِرَادَةِ دَلِيلٌ عَلَى قُوَّةِ الْحَيَاةِ، وَضَعْفُهَا دَلِيلٌ عَلَى ضَعْفِهَا، وَكَمَا أَنَّ عُلُوَّ الْهِمَّةِ، وَصِدْقَ الْإِرَادَةِ وَالطَّلَبِ مِنْ كَمَالِ الْحَيَاةِ: فَهُوَ سَبَبٌ إِلَى حُصُولِ أَكْمَلِ الْحَيَاةِ وَأَطْيَبِهَا، فَإِنَّ الْحَيَاةَ الطَّيِّبَةَ إِنَّمَا تُنَالُ بِالْهِمَّةِ الْعَالِيَةِ، وَالْمَحَبَّةِ الصَّادِقَةِ، وَالْإِرَادَةِ الْخَالِصَةِ، فَعَلَى قَدْرِ ذَلِكَ تَكُونُ الْحَيَاةُ الطَّيِّبَةُ، وَأَخَسُّ النَّاسِ حَيَاةً أَخَسُّهُمْ هِمَّةً، وَأَضْعَفُهُمْ مَحَبَّةً وَطَلَبًا، وَحَيَاةُ الْبَهَائِمِ خَيْرٌ مِنْ حَيَاتِهِ. كَمَا قِيلَ:
نَهَارُكَ يَا مَغْرُورُ سَهْوٌ وَغَفْلَـةٌ ** وَلَيْلُكُ نَوْمٌ وَالــرَّدَى لَكَ لَازِمُ

وَتَكْدَحُ فِيمَا سَوْفَ تُنْكِرُ غِبَّـهُ ** كَذَلِكَ فِي الدُّنْيَا تَعِيشُ الْبَهَائِــمُ

تُسَرُّ بِمَا يَفْنَى وَتَفْرَحُ بِالْمُنَــى ** كَمَا غُرَّ بِاللَّذَّاتِ فِي النَّوْمِ حَالِمُ

وَالْمَقْصُودُ: أَنَّ حَيَاةَ الْقَلْبِ بِالْعِلْمِ وَالْإِرَادَةِ وَالْهِمَّةِ، وَالنَّاسُ إِذَا شَاهَدُوا ذَلِكَ مِنَ الرَّجُلِ قَالُوا: هُوَ حَيُّ الْقَلْبِ، وَحَيَاةُ الْقَلْبِ بِدَوَامِ الذِّكْرِ، وَتَرْكِ الذُّنُوبِ، كَمَا قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ. رَحِمَهُ اللَّهُ:
رَأَيْتُ الذُّنُوبَ تُمِيتُ الْقُلُــوبَ ** وَقَدْ يُورِثُ الذُّلَّ إِدْمَانُهَـــا

وَتَرْكُ الذُّنُوبِ حَيَاةُ الْقُلُــوبِ ** وَخَيْرٌ لِنَفْسِكَ عِصْيَانُهُــــا

وَهَلْ أَفْسَدَ الدِّينَ إِلَّا الْمُلُـــو ** كُ وَأَحْبَارُ سُوءٍ وَرُهْبَانُهَــا

وَبَاعُوا النُّفُوسَ وَلَمْ يَرْبَحُــوا ** وَلَمْ يَغْلُ فِي الْبَيْعِ أَثْمَانُهَــــا

فَقَدْ رَتَعَ الْقَوْمُ فِي جِيفَــــةٍ ** يَبِينُ لِذِي اللُّبِّ خُسْرَانُهَـــا

وَسَمِعْتُ شَيْخَ الْإِسْلَامِ ابْنَ تَيْمِيَّةَ- رَحِمَهُ اللَّهُ- يَقُولُ: مَنْ وَاظَبَ عَلَى يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ. لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ كَلَّ يَوْمٍ- بَيْنَ سُنَّةِ الْفَجْرِ وَصَلَاةِ الْفَجْرِ- أَرْبَعِينَ مَرَّةً أَحْيَى اللَّهُ بِهَا قَلْبَهُ.
وَكَمَا أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ جَعَلَ حَيَاةَ الْبَدَنِ بِالطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، فَحَيَاةُ الْقَلْبِ بِدَوَامِ الذِّكْرِ، وَالْإِنَابَةِ إِلَى اللَّهِ، وَتَرْكِ الذُّنُوبِ، وَالْغَفْلَةِ الْجَاثِمَةِ عَلَى الْقَلْبِ، وَالتَّعَلُّقِ بِالرَّذَائِلِ وَالشَّهَوَاتِ الْمُنْقَطِعَةِ عَنْ قَرِيبٍ يُضْعِفُ هَذِهِ الْحَيَاةَ، وَلَا يَزَالُ الضَّعْفُ يَتَوَالَى عَلَيْهِ حَتَّى يَمُوتَ، وَعَلَامَةُ مَوْتِهِ: أَنَّهُ لَا يَعْرِفُ مَعْرُوفًا، وَلَا يُنْكِرُ مُنْكَرًا، كَمَا قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ أَتَدْرُونَ مَنْ مَيِّتُ الْقَلْبِ الَّذِي قِيلَ فِيهِ:
لَيْسَ مَنْ مَاتَ فَاسْتَرَاحَ بِمَيِّتٍ ** إِنَّمَا الْمَيِّتُ مَيِّتُ الْأَحْيَــاءِ

قَالُوا: وَمَنْ هُوَ؟ قَالَ: الَّذِي لَا يَعْرِفُ مَعْرُوفًا وَلَا يُنْكِرُ مُنْكَرًا.
وَالرَّجُلُ: هُوَ الَّذِي يَخَافُ مَوْتَ قَلْبِهِ، لَا مَوْتَ بَدَنِهِ، إِذْ أَكْثَرُ هَؤُلَاءِ الْخَلْقِ يَخَافُونَ مَوْتَ أَبْدَانِهِمْ، وَلَا يُبَالُونَ بِمَوْتِ قُلُوبِهِمْ، وَلَا يَعْرِفُونَ مِنَ الْحَيَاةِ إِلَّا الْحَيَاةَ الطَّبِيعِيَّةَ، وَذَلِكَ مِنْ مَوْتِ الْقَلْبِ وَالرُّوحِ، فَإِنَّ هَذِهِ الْحَيَاةَ الطَّبِيعِيَّةَ شَبِيهَةٌ بِالظِّلِّ الزَّائِلِ، وَالنَّبَاتِ السَّرِيعِ الْجَفَافِ، وَالْمَنَامِ الَّذِي يُخَيَّلُ كَأَنَّهُ حَقِيقَةٌ، فَإِذَا اسْتَيْقَظَ عَرَفَ أَنَّهُ كَانَ خَيَالًا، كَمَا قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لَوْ أَنَّ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا- مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى آخِرِهَا- أُوتِيَهَا رَجُلٌ وَاحِدٌ، ثُمَّ جَاءَهُ الْمَوْتُ: لَكَانَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ رَأَى فِي مَنَامِهِ مَا يَسُرُّهُ ثُمَّ اسْتَيْقَظَ، فَإِذَا لَيْسَ فِي يَدِهِ شَيْءٌ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ الْمَوْتَ مَوْتَانِ: مَوْتٌ إِرَادِيٌّ، وَمَوْتٌ طَبِيعِيٌّ، فَمَنْ أَمَاتَ نَفْسَهُ مَوْتًا إِرَادِيًّا كَانَ مَوْتُهُ الطَّبِيعِيُّ حَيَاةً لَهُ، وَمَعْنَى هَذَا أَنَّ الْمَوْتَ الْإِرَادِيَّ: هُوَ قَمْعُ الشَّهَوَاتِ الْمُرْدِيَةِ، وَإِخْمَادُ نِيرَانِهَا الْمُحْرِقَةِ، وَتَسْكِينُ هَوَائِجِهَا الْمُتْلِفَةِ، فَحِينَئِذٍ يَتَفَرَّغُ الْقَلْبُ وَالرُّوحُ لِلتَّفَكُّرِ فِيمَا فِيهِ كَمَالُ الْعَبْدِ، وَمَعْرِفَتِهِ، وَالِاشْتِغَالِ بِهِ. وَيَرَى حِينَئِذٍ أَنَّ إِيثَارَ الظِّلِّ الزَّائِلِ عَنْ قَرِيبٍ عَلَى الْعَيْشِ اللَّذِيذِ الدَّائِمِ أَخْسَرُ الْخُسْرَانِ، فَأَمَّا إِذَا كَانَتِ الشَّهَوَاتُ وَافِدَةً، وَاللَّذَّاتُ مُؤْثَرَةً، وَالْعَوَائِدُ غَالِبَةً، وَالطَّبِيعَةُ حَاكِمَةً، فَالْقَلْبُ حِينَئِذٍ إِمَّا أَنْ يَكُونَ أَسِيرًا ذَلِيلًا، أَوْ مَهْزُومًا مُخْرَجًا عَنْ وَطَنِهِ وَمُسْتَقَرِّهِ الَّذِي لَا قَرَارَ لَهُ إِلَّا فِيهِ أَوْ قَتِيلًا مَيِّتًا، وَمَا لِجُرْحٍ بِهِ إِيلَامٌ، وَأَحْسَنُ أَحْوَالِهِ: أَنْ يَكُونَ فِي حَرْبٍ، يُدَالُ لَهُ فِيهَا مَرَّةً، وَيُدَالُ عَلَيْهِ مَرَّةً، فَإِذَا مَاتَ الْعَبْدُ مَوْتَهُ الطَّبِيعِيَّ، كَانَتْ بَعْدَهُ حَيَاةُ رُوحِهِ بِتِلْكَ الْعُلُومِ النَّافِعَةِ، وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، وَالْأَحْوَالِ الْفَاضِلَةِ الَّتِي حَصَلَتْ لَهُ بِإِمَاتَةِ نَفْسِهِ، فَتَكُونُ حَيَاتُهُ هَاهُنَا عَلَى حَسَبِ مَوْتِهِ الْإِرَادِيِّ فِي هَذِهِ الدَّارِ.
وَهَذَا مَوْضِعٌ لَا يَفْهَمُهُ إِلَّا أَلِبَّاءُ النَّاسِ وَعُقَلَاؤُهُمْ، وَلَا يَعْمَلُ بِمُقْتَضَاهُ إِلَّا أَهْلُ الْهِمَمِ الْعَلِيَّةِ، وَالنُّفُوسِ الزَّكِيَّةِ الْأَبِيَّةِ.

.فَصْلٌ: الْمَرْتَبَةُ السَّابِعَةُ مِنْ مَرَاتِبِ الْحَيَاةِ: حَيَاةُ الْأَخْلَاقِ، وَالصِّفَاتُ الْمَحْمُودَةُ:

الَّتِي هِيَ حَيَاةٌ رَاسِخَةٌ لِلْمَوْصُوفِ بِهَا، فَهُوَ لَا يَتَكَلَّفُ التَّرَقِّيَ فِي دَرَجَاتِ الْكَمَالِ، وَلَا يَشُقُّ عَلَيْهِ، لِاقْتِضَاءِ أَخْلَاقِهِ وَصِفَاتِهِ لِذَلِكَ، بِحَيْثُ لَوْ فَارَقَهُ ذَلِكَ لَفَارَقَ مَا هُوَ مِنْ طَبِيعَتِهِ وَسَجِيَّتِهِ، فَحَيَاةُ مَنْ قَدْ طُبِعَ عَلَى الْحَيَاءِ وَالْعِفَّةِ وَالْجُودِ وَالسَّخَاءِ، وَالْمُرُوءَةِ وَالصِّدْقِ وَالْوَفَاءِ وَنَحْوِهَا أَتَمُّ مِنْ حَيَاةِ مَنْ يَقْهَرُ نَفْسَهُ، وَيُغَالِبُ طَبْعَهُ، حَتَّى يَكُونَ كَذَلِكَ، فَإِنَّ هَذَا بِمَنْزِلَةِ مَنْ تُعَارِضُهُ أَسْبَابُ الدَّاءِ وَهُوَ يُعَالِجُهَا وَيَقْهَرُهَا بِأَضْدَادِهَا، وَذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ قَدْ عُوفِيَ مِنْ ذَلِكَ.
وَكُلَّمَا كَانَتْ هَذِهِ الْأَخْلَاقُ فِي صَاحِبِهَا أَكْمَلَ كَانَتْ حَيَاتُهُ أَقْوَى وَأَتَمَّ، وَلِهَذَا كَانَ خَلْقُ الْحَيَاءِ اشْتِقَاقُهُ مُشْتَقًّا مِنَ الْحَيَاةِ اسْمًا وَحَقِيقَةً، فَأَكْمَلُ النَّاسِ حَيَاةً: أَكْمَلُهُمْ حَيَاءً، وَنُقْصَانُ حَيَاءِ الْمَرْءِ مِنْ نُقْصَانِ حَيَاتِهِ، فَإِنَّ الرُّوحَ إِذَا مَاتَتْ لَمْ تُحِسَّ بِمَا يُؤْلِمُهَا مِنَ الْقَبَائِحِ، فَلَا تَسْتَحِي مِنْهَا، فَإِذَا كَانَتْ صَحِيحَةَ الْحَيَاةِ أَحَسَّتْ بِذَلِكَ، فَاسْتَحْيَتْ مِنْهُ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْأَخْلَاقِ الْفَاضِلَةِ، وَالصِّفَاتِ الْمَمْدُوحَةِ تَابِعَةٌ لِقُوَّةِ الْحَيَاةِ، وَضِدِّهَا مِنْ نُقْصَانِ الْحَيَاةِ، وَلِهَذَا كَانَتْ حَيَاةُ الشُّجَاعِ أَكْمَلَ مِنْ حَيَاةِ الْجَبَانِ، وَحَيَاةُ السَّخِيِّ أَكْمَلَ مِنْ حَيَاةِ الْبَخِيلِ، وَحَيَاةُ الْفَطِنِ الذَّكِيِّ أَكْمَلَ مِنْ حَيَاةِ الْفَدْمِ الْبَلِيدِ، وَلِهَذَا لَمَّا كَانَ الْأَنْبِيَاءُ- صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ- أَكْمَلَ النَّاسِ حَيَاةً حَتَّى إِنَّ قُوَّةَ حَيَاتِهِمْ تَمْنَعُ الْأَرْضَ أَنْ تُبْلِيَ أَجْسَامَهُمْ- كَانُوا أَكْمَلَ النَّاسِ فِي هَذِهِ الْأَخْلَاقِ، ثُمَّ الْأَمْثَلُ فَالْأَمْثَلُ مِنْ أَتْبَاعِهِمْ.
فَانْظُرِ الْآنَ إِلَى حَيَاةِ حَلَّافٍ مَهِينٍ هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ، مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ، عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ، وَحَيَاةُ جَوَّادٍ شُجَاعٍ، بَرٍّ عَادِلٍ عَفِيفٍ مُحْسِنٍ- تَجِدُ الْأَوَّلَ مَيِّتًا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الثَّانِي، وَلِلَّهِ دَرُّ الْقَائِلِ:
وَمَا لِلْمَرْءِ خَيْرٌ فِي حَيَــاةٍ ** إِذَا مَا عُدَّ مَنْ سَقْطِ الْمَتَـاعِ

.فَصْلٌ: الْمَرْتَبَةُ الثَّامِنَةُ مِنْ مَرَاتِبِ الْحَيَاةِ: حَيَاةُ الْفَرَحِ وَالسُّرُورِ، وَقُرَّةُ الْعَيْنِ بِاللَّهِ:

وَهَذِهِ الْحَيَاةُ إِنَّمَا تَكُونُ بَعْدَ الظَّفَرِ بِالْمَطْلُوبِ، الَّذِي تَقَرُّ بِهِ عَيْنُ طَالِبِهِ، فَلَا حَيَاةَ نَافِعَةً لَهُ بِدُونِهِ، وَحَوْلَ هَذِهِ الْحَيَاةِ يُدَنْدِنُ النَّاسُ كُلُّهُمْ، وَكُلُّهُمْ قَدْ أَخْطَأَ طَرِيقَهَا، وَسَلَكَ طُرُقًا لَا تُفْضِي إِلَيْهَا، بَلْ تَقْطَعُهُ عَنْهَا، إِلَّا أَقَلَّ الْقَلِيلِ.
فَدَارَ طَلَبُ الْكُلِّ حَوْلَ هَذِهِ الْحَيَاةِ، وَحُرِمَهَا أَكْثَرُهُمْ.
وَسَبَبُ حِرْمَانِهِمْ إِيَّاهَا: ضَعْفُ الْعَقْلِ وَالتَّمْيِيزِ وَالْبَصِيرَةِ، وَضَعْفُ الْهِمَّةِ وَالْإِرَادَةِ، فَإِنَّ مَادَّتَهَا بَصِيرَةٌ وَقَادَةٌ، وَهِمَّةٌ نَقَّادَةٌ، وَالْبَصِيرَةُ كَالْبَصَرِ تَكُونُ عَمًى وَعَوَرًا وَعَمَشًا وَرَمَدًا، وَتَامَّةَ النُّورِ وَالضِّيَاءِ، وَهَذِهِ الْآفَاتُ قَدْ تَكُونُ لَهَا بِالْخِلْقَةِ فِي الْأَصْلِ، وَقَدْ تَحْدُثُ فِيهَا بِالْعَوَارِضِ الْكَسْبِيَّةِ.
وَالْمَقْصُودُ: أَنَّ هَذِهِ الْمَرْتَبَةَ مِنْ مَرَاتِبِ الْحَيَاةِ هِيَ أَعْلَى مَرَاتِبِهَا، وَلَكِنْ كَيْفَ يَصِلُ إِلَيْهَا مَنْ عَقْلُهُ مَسْبِيٌّ فِي بِلَادِ الشَّهَوَاتِ، وَأَمَلُهُ مَوْقُوفٌ عَلَى اجْتِنَاءِ اللَّذَّاتِ، وَسِيرَتُهُ جَارِيَةٌ عَلَى أَسْوَأِ الْعَادَاتِ، وَدِينُهُ مُسْتَهْلَكٌ بِالْمَعَاصِي وَالْمُخَالَفَاتِ، وَهِمَّتُهُ وَاقِفَةٌ مَعَ السُّفْلِيَّاتِ، وَعَقِيدَتُهُ غَيْرُ مُتَلَقَّاةٍ مِنْ مِشْكَاةِ النُّبُوَّاتِ؟!
فَهُوَ فِي الشَّهَوَاتِ مُنْغَمِسٌ، وَفِي الشُّبْهَاتِ مُنْتَكِسٌ، وَعَنِ النَّاصِحِ مُعْرِضٌ، وَعَلَى الْمُرْشِدِ مُعْتَرِضٌ، وَعَنِ السَّرَّاءِ نَائِمٌ، وَقَلْبُهُ فِي كُلِّ وَادٍ هَائِمٌ، فَلَوْ أَنَّهُ تَجَرَّدَ مِنْ نَفْسِهِ، وَرَغِبَ عَنْ مُشَارَكَةِ أَبْنَاءِ جِنْسِهِ، وَخَرَجَ مِنْ ضِيقِ الْجَهْلِ إِلَى فَضَاءِ الْعِلْمِ، وَمِنْ سِجْنِ الْهَوَى إِلَى سَاحَةِ الْهُدَى، وَمِنْ نَجَاسَةِ النَّفْسِ، إِلَى طَهَارَةِ الْقُدْسِ لَرَأَى الْإِلْفَ الَّذِي نَشَأَ بِنَشْأَتِهِ، وَزَادَ بِزِيَادَتِهِ، وَقَوِيَ بِقُوَّتِهِ، وَشَرُفَ عِنْدَ نَفْسِهِ وَأَبْنَاءِ جِنْسِهِ بِحُصُولِهِ، وَسَدِّ قَذًى فِي عَيْنِ بَصِيرَتِهِ، وَشَجَا فِي حَلْقِ إِيمَانِهِ، وَمَرَضًا مُتَرَامِيًا إِلَى هَلَاكِهِ،
فَإِنْ قُلْتَ: قَدْ أَشَرْتَ إِلَى حَيَاةٍ غَيْرِ مَعْهُودَةٍ بَيْنَ أَمْوَاتِ الْأَحْيَاءِ، فَهَلْ يُمْكِنُكَ وَصْفُ طَرِيقِهَا، لِأَصِلَ إِلَى شَيْءٍ مِنْ أَذْوَاقِهَا، فَقَدْ بَانَ لِيَ أَنَّ مَا نَحْنُ فِيهِ مِنَ الْحَيَاةِ حَيَاةٌ بَهِيمِيَّةٌ، رُبَّمَا زَادَتْ عَلَيْنَا فِيهِ الْبَهَائِمُ بِخُلُوِّهَا عَنِ الْمُنْكَرَاتِ وَالْمُنَغِّصَاتِ وَسَلَامَةِ الْعَاقِبَةِ؟
قُلْتُ: لَعَمْرُ اللَّهِ إِنَّ اشْتِيَاقَكَ إِلَى هَذِهِ الْحَيَاةِ، وَطَلَبَ عِلْمِهَا وَمَعْرِفَتِهَا: لَدَلِيلٌ عَلَى حَيَاتِكَ، وَأَنَّكَ لَسْتَ مِنْ جُمْلَةِ الْأَمْوَاتِ.
فَأَوَّلُ طَرِيقِهَا: أَنْ تَعْرِفَ اللَّهَ، وَتَهْتَدِيَ إِلَيْهِ طَرِيقًا يُوَصِّلُكَ إِلَيْهِ، وَيُحْرِقُ ظُلُمَاتِ الطَّبْعِ بِأَشِعَّةِ الْبَصِيرَةِ، فَيَقُومُ بِقَلْبِهِ شَاهِدٌ مِنْ شَوَاهِدِ الْآخِرَةِ، فَيَنْجَذِبُ إِلَيْهَا بِكُلِّيَّتِهِ، وَيَزْهَدُ فِي التَّعَلُّقَاتِ الْفَانِيَةِ، وَيَدْأَبُ فِي تَصْحِيحِ التَّوْبَةِ، وَالْقِيَامِ بِالْمَأْمُورَاتِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ، وَتَرْكِ الْمَنْهِيَّاتِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ، ثُمَّ يَقُومُ حَارِسًا عَلَى قَلْبِهِ، فَلَا يُسَامِحُهُ بِخَطْرَةٍ يَكْرَهُهَا اللَّهُ، وَلَا بِخَطْرَةِ فُضُولٍ لَا تَنْفَعُهُ، فَيَصْفُو بِذَلِكَ قَلْبُهُ عَنْ حَدِيثِ النَّفْسِ وَوَسْوَاسِهَا، فَيُفْدَى مِنْ أَسْرِهَا، وَيَصِيرُ طَلِيقًا، فَحِينَئِذٍ يَخْلُو قَلْبُهُ بِذِكْرِ رَبِّهِ، وَمَحَبَّتِهِ وَالْإِنَابَةِ إِلَيْهِ، وَيَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ بُيُوتِ طَبْعِهِ وَنَفْسِهِ، إِلَى فَضَاءِ الْخُلْوَةِ بِرَبِّهِ وَذِكْرِهِ، كَمَا قِيلَ:
وَأَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الْبُيُوتِ لَعَلَّنِـي ** أُحَدِّثُ عَنْكَ النَّفْسَ فِي السِّرِّ خَالِيًا

فَحِينَئِذٍ يَجْتَمِعُ قَلْبُهُ وَخَوَاطِرُهُ وَحَدِيثُ نَفْسِهِ عَلَى إِرَادَةِ رَبِّهِ، وَطَلَبِهِ وَالشَّوْقِ إِلَيْهِ.
فَإِذَا صَدَقَ فِي ذَلِكَ رُزِقَ مَحَبَّةَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَاسْتَوْلَتْ رُوحَانِيَّتُهُ عَلَى قَلْبِهِ، فَجَعَلَهُ إِمَامَهُ وَمُعَلِّمَهُ، وَأُسْتَاذَهُ وَشَيْخَهُ وَقُدْوَتَهُ، كَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ نَبِيَّهُ وَرَسُولَهُ وَهَادِيًا إِلَيْهِ، فَيُطَالِعُ سِيرَتَهُ وَمَبَادِئَ أَمْرِهِ، وَكَيْفِيَّةَ نُزُولِ الْوَحْيِ عَلَيْهِ، وَيَعْرِفُ صِفَاتِهُ وَأَخْلَاقَهُ، وَآدَابَهُ فِي حَرَكَاتِهِ وَسُكُونِهِ وَيَقَظَتِهِ وَمَنَامِهِ، وَعِبَادَتِهِ وَمُعَاشَرَتِهِ لِأَهْلِهِ وَأَصْحَابِهِ، حَتَّى يَصِيرَ كَأَنَّهُ مَعَهُ مِنْ بَعْضِ أَصْحَابِهِ.
فَإِذَا رَسَخَ قَلْبُهُ فِي ذَلِكَ: فَتَحَ اللَّهُ عَلَى عَبْدِهِ بِفَهْمِ الْوَحْيِ الْمُنَزَّلِ عَلَيْهِ عَلَيْهِ بِفَهْمِ الْوَحْيِ الْمُنَزَّلِ عَلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ، بِحَيْثُ لَوْ قَرَأَ السُّورَةَ شَاهَدَ قَلْبُهُ مَا أُنْزِلَتْ فِيهِ، وَمَا أُرِيدَ بِهَا، وَحَظَّهُ الْمُخْتَصَّ بِهِ مِنْهَا مِنَ الصِّفَاتِ وَالْأَخْلَاقِ وَالْأَفْعَالِ الْمَذْمُومَةِ، فَيَجْتَهِدُ فِي التَّخَلُّصِ مِنْهَا كَمَا يَجْتَهِدُ فِي الشِّفَاءِ مِنَ الْمَرَضِ الْمَخُوفِ، وَشَاهَدَ حَظَّهُ مِنَ الصِّفَاتِ وَالْأَفْعَالِ الْمَمْدُوحَةِ، فَيَجْتَهِدُ فِي تَكْمِيلِهَا وَإِتْمَامِهَا.
فَإِذَا تَمَكَّنَ مِنْ ذَلِكَ انْفَتَحَ فِي قَلْبِهِ عَيْنٌ أُخْرَى، يُشَاهِدُ بِهَا صِفَاتِ الرَّبِّ وَمُشَاهَدَةُ الْعَبْدِ لَهَا حَتَّى تَصِيرَ لِقَلْبِهِ بِمَنْزِلَةِ الْمَرْئِيِّ لِعَيْنِهِ جَلَّ جَلَالُهُ، حَتَّى تَصِيرَ لِقَلْبِهِ بِمَنْزِلَةِ الْمَرْئِيِّ لِعَيْنِهِ، فَيَشْهَدُ عُلُوَّ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ فَوْقَ خَلْقِهِ، وَاسْتِوَاءَهُ عَلَى عَرْشِهِ، وَنُزُولَ الْأَمْرِ مِنْ عِنْدِهِ بِتَدْبِيرِ مَمْلَكَتِهِ، وَتَكْلِيمَهُ بِالْوَحْيِ، وَتَكْلِيمَهُ لِعَبْدِهِ جِبْرِيلَ بِهِ، وَإِرْسَالَهُ إِلَى مَنْ يَشَاءُ بِمَا يَشَاءُ، وَصُعُودَ الْأُمُورِ إِلَيْهِ، وَعَرْضَهَا عَلَيْهِ.
فَيُشَاهِدُ قَلْبُهُ رَبًّا قَاهِرًا فَوْقَ عِبَادِهِ، آمِرًا نَاهِيًا، بَاعِثًا لِرُسُلِهِ، مُنْزِلًا لِكُتُبِهِ، مَعْبُودًا مُطَاعًا، لَا شَرِيكَ لَهُ، وَلَا مَثِيلَ، وَلَا عَدْلَ لَهُ، لَيْسَ لِأَحَدٍ مَعَهُ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ، بَلِ الْأَمْرُ كُلُّهُ لَهُ، فَيَشْهَدُ رَبَّهُ سُبْحَانَهُ قَائِمًا بِالْمُلْكِ وَالتَّدْبِيرِ، فَلَا حَرَكَةَ وَلَا سُكُونَ، وَلَا نَفْعَ وَلَا ضَرَّ، وَلَا عَطَاءَ وَلَا مَنْعَ، وَلَا قَبْضَ وَلَا بَسْطَ إِلَّا بِقُدْرَتِهِ وَتَدْبِيرِهِ، فَيَشْهَدُ قِيَامَ الْكَوْنِ كُلِّهِ بِهِ، وَقِيَامَهُ سُبْحَانَهُ بِنَفْسِهِ، فَهُوَ الْقَائِمُ بِنَفْسِهِ، الْمُقِيمُ لِكُلِّ مَا سِوَاهُ.
فَإِذَا رَسَخَ قَلْبُهُ فِي ذَلِكَ شَهِدَ الصِّفَةَ الْمُصَحِّحَةَ لِجَمِيعِ صِفَاتِ الْكَمَالِ، وَهِيَ الْحَيَاةُ الَّتِي كَمَالُهَا يَسْتَلْزِمُ كَمَالَ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالْقُدْرَةِ وَالْإِرَادَةِ وَالْكَلَامِ وَسَائِرِ صِفَاتِ الْكَمَالِ، وَصِفَةَ الْقَيُّومِيَّةِ الصَّحِيحَةِ الْمُصَحِّحَةِ لِجَمِيعِ الْأَفْعَالِ، فَالْحَيُّ الْقَيُّومُ: مَنْ لَهُ كُلُّ صِفَةِ كَمَالٍ، وَهُوَ الْفَعَّالُ لِمَا يُرِيدُ.
فَإِذَا رَسَخَ قَلْبُهُ فِي ذَلِكَ: فَتَحَ لَهُ مَشْهَدَ الْقُرْبِ وَالْمَعِيَّةِ فَيَشْهَدُهُ سُبْحَانَهُ مَعَهُ، غَيْرَ غَائِبٍ عَنْهُ، قَرِيبًا غَيْرَ بَعِيدٍ، مَعَ كَوْنِهِ فَوْقَ سَمَاوَاتِهِ عَلَى عَرْشِهِ، بَائِنًا مِنْ خَلْقِهِ، قَائِمًا بِالصُّنْعِ وَالتَّدْبِيرِ، وَالْخَلْقِ وَالْأَمْرِ، فَيَحْصُلُ لَهُ- مَعَ التَّعْظِيمِ وَالْإِجْلَالِ- الْأُنْسُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ، فَيَأْنَسُ بِهِ بَعْدَ أَنْ كَانَ مُسْتَوْحِشًا، وَيَقْوَى بِهِ بَعْدَ أَنْ كَانَ ضَعِيفًا، وَيَفْرَحُ بِهِ بَعْدَ أَنْ كَانَ حَزِينًا، وَيَجِدُ بَعْدَ أَنْ كَانَ فَاقِدًا، فَحِينَئِذٍ يَجِدُ طَعْمَ قَوْلِهِ: «وَلَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَلَئِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ».
فَأَطْيَبُ الْحَيَاةِ عَلَى الْإِطْلَاقِ حَيَاةُ هَذَا الْعَبْدِ، فَإِنَّهُ مُحِبٌّ مَحْبُوبٌ، مُتَقَرِّبٌ إِلَى رَبِّهِ، وَرَبُّهُ قَرِيبٌ مِنْهُ، قَدْ صَارَ لَهُ حَبِيبُهُ لِفَرْطِ اسْتِيلَائِهِ عَلَى قَلْبِهِ وَلَهَجِهِ بِذِكْرِهِ وَعُكُوفِ هِمَّتِهِ عَلَى مَرْضَاتِهِ بِمَنْزِلَةِ سَمْعِهِ وَبَصَرِهِ وَيَدِهِ وَرِجْلِهِ، وَهَذِهِ آلَاتُ إِدْرَاكِهِ وَعَمَلِهِ وَسَعْيِهِ، فَإِنْ سَمِعَ سَمِعَ بِحَبِيبِهِ، وَإِنْ أَبْصَرَ أَبْصَرَ بِهِ، وَإِنْ بَطَشَ بَطَشَ بِهِ، وَإِنْ مَشَى مَشَى بِهِ.
فَإِنْ صَعُبَ عَلَيْكَ فَهْمُ هَذَا الْمَعْنَى، وَكَوْنُ الْمُحِبِّ الْكَامِلِ الْمَحَبَّةِ يَسْمَعُ وَيُبْصِرُ وَيَبْطِشُ وَيَمْشِي بِمَحْبُوبِهِ، وَذَاتُهُ غَائِبَةٌ عَنْهُ، فَاضْرِبْ عَنْهُ صَفْحًا، وَخَلِّ هَذَا الشَّأْنَ لِأَهْلِهِ.
خَلِّ الْهَوَى لِأُنَاسٍ يُعْرَفُونَ بِهِ ** قَدْ كَابَدُوا الْحُبَّ حَتَّى لَانَ أَصْعَبُهُ

فَإِنَّ السَّالِكَ إِلَى رَبِّهِ لَا تَزَالُ هِمَّتُهُ عَاكِفَةً عَلَى أَمْرَيْنِ؛ اسْتِفْرَاغُ الْقَلْبِ فِي صِدْقِ الْحُبِّ، وَبَذْلُ الْجُهْدِ فِي امْتِثَالِ الْأَمْرِ، فَلَا يَزَالُ كَذَلِكَ حَتَّى يَبْدُوَ عَلَى سِرِّهِ شَوَاهِدُ مَعْرِفَتِهِ، وَآثَارُ صِفَاتِهِ وَأَسْمَائِهِ، وَلَكِنْ يَتَوَارَى عَنْهُ ذَلِكَ أَحْيَانًا، وَيَبْدُو أَحْيَانًا، يَبْدُو مِنْ عَيْنِ الْجُودِ، وَيَتَوَارَى بِحُكْمِ الْفَتْرَةِ، وَالْفَتَرَاتُ أَمْرٌ لَازِمٌ لِلْعَبْدِ، فَكُلُّ عَامِلٍ لَهُ شِرَّةٌ، وَلِكُلِّ شِرَّةٌ فَتْرَةٌ، فَأَعْلَاهَا فَتْرَةُ الْوَحْيِ؛ وَهِيَ لِلْأَنْبِيَاءِ، وَفَتْرَةُ الْحَالِ الْخَاصِّ لِلْعَارِفِينَ، وَفَتْرَةُ الْهِمَّةِ لِلْمُرِيدِينَ، وَفَتْرَةُ الْعَمَلِ لِلْعَابِدِينَ، وَفِي هَذِهِ الْفَتَرَاتِ أَنْوَاعٌ مِنَ الْحِكْمَةِ وَالرَّحْمَةِ، وَالتَّعَرُّفَاتِ الْإِلَهِيَّةِ، وَتَعْرِيفِ قَدْرِ النِّعْمَةِ، وَتَجْدِيدِ الشَّوْقِ إِلَيْهَا، وَمَحْضِ التَّوَاجُدِ إِلَيْهَا وَغَيْرِ ذَلِكَ.
وَلَا تَزَالُ تِلْكَ الشَّوَاهِدُ تَتَكَرَّرُ وَتَتَزَايَدُ، حَتَّى تَسْتَقِرَّ، وَيَنْصَبِغَ بِهَا قَلْبُهُ، وَتَصِيرُ الْفَتْرَةُ غَيْرَ قَاطِعَةٍ لَهُ، بَلْ تَكُونُ نِعْمَةً عَلَيْهِ، وَرَاحَةً لَهُ، وَتَرْوِيحًا وَتَنْفِيسًا عَنْهُ.
فَهِمَّةُ الْمُحِبِّ إِذَا تَعَلَّقَتْ رُوحُهُ بِحَبِيبِهِ، عَاكِفًا عَلَى مَزِيدِ مَحَبَّتِهِ، وَأَسْبَابِ قُوَّتِهَا، فَهُوَ يَعْمَلُ عَلَى هَذَا، ثُمَّ يَتَرَقَّى مِنْهُ إِلَى طَلَبِ مَحَبَّةِ حَبِيبِهِ لَهُ، فَيَعْمَلُ عَلَى حُصُولِ ذَلِكَ، وَلَا يُعْدَمُ الطَّلَبَ الْأَوَّلَ، وَلَا يُفَارِقُهُ أَلْبَتَّةَ، بَلْ يَنْدَرِجُ فِي هَذَا الطَّلَبِ الثَّانِي، فَتَتَعَلَّقُ هِمَّتُهُ بِالْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا، فَإِنَّهُ إِنَّمَا يَحْصُلُ لَهُ مَنْزِلَةُ «كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ» بِهَذَا الْأَمْرِ الثَّانِي، وَهُوَ كَوْنُهُ مَحْبُوبًا لِحَبِيبِهِ، كَمَا قَالَ فِي الْحَدِيثِ: «فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ وَبَصَرَهُ» إِلَخْ، فَهُوَ يَتَقَرَّبُ إِلَى رَبِّهِ حِفْظًا لِمَحَبَّتِهِ لَهُ، وَاسْتِدْعَاءً لِمَحَبَّةِ رَبِّهِ لَهُ.
فَحِينَئِذٍ يَشُدُّ مِئْزَرَ الْجِدِّ فِي طَلَبِ مَحَبَّةِ حَبِيبِهِ لَهُ بِأَنْوَاعِ التَّقَرُّبِ إِلَيْهِ، فَقَلْبُهُ؛ لِلْمَحَبَّةِ وَالْإِنَابَةِ وَالتَّوَكُّلِ وَالْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ، وَلِسَانُهُ؛ لِلذِّكْرِ وَتِلَاوَةِ كَلَامِ حَبِيبِهِ، وَجَوَارِحُهُ: لِلطَّاعَاتِ، فَهُوَ لَا يَفْتُرُ عَنِ التَّقَرُّبِ مِنْ حَبِيبِهِ.
وَهَذَا هُوَ السَّيْرُ الْمُفْضِي إِلَى هَذِهِ الْغَايَةِ الَّتِي لَا تُنَالُ إِلَّا بِهِ، وَلَا يُتَوَصَّلُ إِلَيْهَا إِلَّا مِنْ هَذَا الْبَابِ، وَهَذِهِ الطَّرِيقِ، وَحِينَئِذٍ تُجْمَعُ لَهُ فِي سَيْرِهِ جَمِيعُ مُتَفَرِّقَاتِ السُّلُوكِ مِنَ الْحُضُورِ وَالْهَيْبَةِ وَالْمُرَاقَبَةِ وَنَفْيِ الْخَوَاطِرِ وَتَخْلِيَةِ الْبَاطِنِ.
فَإِنَّ الْمُحِبَّ يَشْرَعُ- أَوَّلًا- فِي التَّقَرُّبَاتِ بِالْأَعْمَالِ الظَّاهِرَةِ، وَهِيَ ظَاهِرُ التَّقَرُّبِ، ثُمَّ يَتَرَقَّى مِنْ ذَلِكَ إِلَى حَالِ التَّقَرُّبِ، وَهُوَ الِانْجِذَابُ إِلَى حَبِيبِهِ بِكُلِّيَّتِهِ بِرُوحِهِ وَقَلْبِهِ، وَعَقْلِهِ وَبَدَنِهِ، ثُمَّ يَتَرَقَّى مِنْ ذَلِكَ إِلَى حَالِ الْإِحْسَانِ، فَيَعْبُدُ اللَّهَ كَأَنَّهُ يَرَاهُ، فَيَتَقَرَّبُ إِلَيْهِ حِينَئِذٍ مِنْ بَاطِنِهِ بِأَعْمَالِ الْقُلُوبِ؛ مِنَ الْمَحَبَّةِ وَالْإِنَابَةِ وَالتَّعْظِيمِ وَالْإِجْلَالِ وَالْخَشْيَةِ، فَيَنْبَعِثُ حِينَئِذٍ مِنْ بَاطِنِهِ الْجُودُ بِبَذْلِ الرُّوحِ وَالْجُودُ فِي مَحَبَّةِ حَبِيبِهِ بِلَا تَكَلُّفٍ، فَيَجُودُ بِرُوحِهِ وَنَفْسِهِ، وَأَنْفَاسِهِ وَإِرَادَتِهِ، وَأَعْمَالِهِ لِحَبِيبِهِ حَالًا لَا تَكَلُّفًا، فَإِذَا وَجَدَ الْمُحِبُّ ذَلِكَ فَقَدْ ظَفِرَ بِحَالِ التَّقَرُّبِ وَسِرِّهِ وَبَاطِنِهِ، وَإِنْ لَمْ يَجِدْهُ فَهُوَ يَتَقَرَّبُ بِلِسَانِهِ وَبَدَنِهِ وَظَاهِرِهِ فَقَطْ، فَلْيَدُمْ عَلَى ذَلِكَ، وَلْيَتَكَلَّفِ التَّقَرُّبَ بِالْأَذْكَارِ وَالْأَعْمَالِ عَلَى الدَّوَامِ، فَعَسَاهُ أَنْ يَحْظَى بِحَالِ الْقُرْبِ.
وَوَرَاءَ هَذَا الْقُرْبِ الْبَاطِنِ أَمْرٌ آخَرُ أَيْضًا، وَهُوَ شَيْءٌ لَا يُعَبَّرُ عَنْهُ بِأَحْسَنِ مِنْ عِبَارَةِ أَقْرَبِ الْخَلْقِ إِلَى اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى، حَيْثُ يَقُولُ حَاكِيًا عَنْ رَبِّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: «مَنْ تَقَرَّبَ مِنِّي شِبْرًا تَقَرَّبْتُ مِنْهُ ذِرَاعًا، وَمَنْ تَقَرَّبَ مِنِّي ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ مِنْهُ بَاعًا، وَمَنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً» فَيَجِدُ هَذَا الْمُحِبُّ فِي بَاطِنِهِ ذَوْقَ مَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ ذَوْقًا حَقِيقِيًّا.
فَذَكَرَ مِنْ مَرَاتِبِ الْقُرْبِ ثَلَاثَةً، وَنَبَّهَ بِهَا عَلَى مَا دُونَهَا وَمَا فَوْقَهَا. فَذَكَرَ تَقَرُّبَ الْعَبْدِ إِلَيْهِ بِالْبِرِّ، وَتَقَرُّبَهُ سُبْحَانَهُ إِلَى الْعَبْدِ ذِرَاعًا، فَإِذَا ذَاقَ الْعَبْدُ حَقِيقَةَ هَذَا التَّقَرُّبِ انْتَقَلَ مِنْهُ إِلَى تَقَرُّبِ الذِّرَاعِ، فَيَجِدُ ذَوْقَ تَقَرُّبِ الرَّبِّ إِلَيْهِ بَاعًا.
فَإِذَا ذَاقَ حَلَاوَةَ هَذَا الْقُرْبِ الثَّانِي أَسْرَعَ الْمَشْيَ حِينَئِذٍ إِلَى رَبِّهِ، فَيَذُوقُ حَلَاوَةَ إِتْيَانِهِ إِلَيْهِ هَرْوَلَةً، وَهَاهُنَا مُنْتَهَى الْحَدِيثِ، مُنَبِّهًا عَلَى أَنَّهُ إِذَا هَرْوَلَ عَبْدُهُ إِلَيْهِ كَانَ قُرْبُ حَبِيبِهِ مِنْهُ فَوْقَ هَرْوَلَةِ الْعَبْدِ إِلَيْهِ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ أَمْسَكَ عَنْ ذَلِكَ لِعَظِيمِ شَاهِدِ الْجَزَاءِ، أَوْ لِأَنَّهُ يَدْخُلُ فِي الْجَزَاءِ الَّذِي لَمْ تَسْمَعْ بِهِ أُذُنٌ، وَلَمْ يَخْطُرْ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ، أَوْ إِحَالَةً لَهُ عَلَى الْمَرَاتِبِ الْمُتَقَدِّمَةِ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ لَهُ وَقِسْ عَلَى هَذَا، فَعَلَى قَدْرِ مَا تَبْذُلُ مِنْكَ مُتَقَرِّبًا إِلَى رَبِّكَ يَتَقَرَّبُ إِلَيْكَ بِأَكْثَرَ مِنْهُ، وَعَلَى هَذَا فَلَازِمُ هَذَا التَّقَرُّبِ الْمَذْكُورِ فِي مَرَاتِبِهِ؛ أَيْ مَنْ تَقَرَّبَ إِلَى حَبِيبِهِ بِرُوحِهِ وَجَمِيعِ قُوَاهُ، وَإِرَادَتِهِ وَأَقْوَالِهِ وَأَعْمَالِهِ تَقَرَّبَ الرَّبُّ مِنْهُ سُبْحَانَهُ بِنَفْسِهِ فِي مُقَابَلَةِ تَقَرُّبِ عَبْدِهِ إِلَيْهِ.
وَلَيْسَ الْقُرْبُ فِي هَذِهِ الْمَرَاتِبِ كُلِّهَا قُرْبَ مَسَافَةٍ حِسِّيَّةٍ وَلَا مُمَاسَّةٍ، بَلْ هُوَ قُرْبٌ حَقِيقِيٌّ، وَالرَّبُّ تَعَالَى فَوْقَ سَمَاوَاتِهِ عَلَى عَرْشِهِ، وَالْعَبْدُ فِي الْأَرْضِ.
وَهَذَا الْمَوْضِعُ هُوَ سِرُّ السُّلُوكِ، وَحَقِيقَةُ الْعُبُودِيَّةِ، وَهُوَ مَعْنَى الْوُصُولِ الَّذِي يُدَنْدِنُ حَوْلَهُ الْقَوْمُ.
وَمَلَاكُ هَذَا الْأَمْرِ هُوَ قَصْدُ التَّقَرُّبِ أَوَّلًا، ثُمَّ التَّقَرُّبُ ثَانِيًا، ثُمَّ حَالُ الْقُرْبِ ثَالِثًا، وَهُوَ الِانْبِعَاثُ بِالْكُلِّيَّةِ إِلَى الْحَبِيبِ.
وَحَقِيقَةُ هَذَا الِانْبِعَاثِ: أَنْ تَفْنَى بِمُرَادِهِ عَنْ هَوَاكَ، وَبِمَا مِنْهُ عَنْ حَظِّكَ، بَلْ يَصِيرُ ذَلِكَ هُوَ مَجْمُوعُ حَظِّكَ وَمُرَادِكَ، وَقَدْ عَرَفْتَ أَنَّ مَنْ تَقَرَّبَ إِلَى حَبِيبِهِ بِشَيْءٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ جُوزِيَ عَلَى ذَلِكَ بِقُرْبٍ هُوَ أَضْعَافُهُ، وَعَرَفْتَ أَنَّ أَعْلَى أَنْوَاعِ التَّقَرُّبِ تَقَرُّبُ الْعَبْدِ بِجُمْلَتِهِ- بِظَاهِرِهِ وَبَاطِنِهِ، وَبِوُجُودِهِ- إِلَى حَبِيبِهِ، فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدْ تَقَرَّبَ بِكُلِّهِ، وَلَمْ تَبْقَ مِنْهُ بَقِيَّةٌ لِغَيْرِ حَبِيبِهِ، كَمَا قِيلَ:
لَا كَانَ مَنْ لِسِوَاكَ فِيهِ بَقِيَّـةٌ ** يَجِدُ السَّبِيلَ بِهَا إِلَيْهِ الْعُذَّلُ

وَإِذَا كَانَ الْمُتَقَرَّبُ إِلَيْهِ بِالْأَعْمَالِ يُعْطِي أَضْعَافَ أَضْعَافَ مَا تُقُرِّبَ بِهِ، فَمَا الظَّنُّ بِمَنْ أُعْطِيَ حَالَ التَّقَرُّبِ وَذَوْقَهُ وَوَجْدَهُ؟ فَمَا الظَّنُّ بِمَنْ تَقَرَّبَ إِلَيْهِ بِرُوحِهِ، وَجَمِيعِ إِرَادَتِهِ وَهِمَّتِهِ، وَأَقْوَالِهِ وَأَعْمَالِهِ؟
وَعَلَى هَذَا فَكَمَا جَادَ لِحَبِيبِهِ بِنَفْسِهِ، فَإِنَّهُ أَهْلٌ أَنْ يُجَادَ عَلَيْهِ، بِأَنْ يَكُونَ رَبُّهُ سُبْحَانَهُ هُوَ حَظُّهُ وَنَصِيبُهُ، عِوَضًا عَنْ كُلِّ شَيْءٍ، جَزَاءً وِفَاقًا، فَإِنَّ الْجَزَاءَ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ. وَشَوَاهِدُ هَذَا كَثِيرَةٌ.
مِنْهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} فَفَرَّقَ بَيْنَ الْجَزَاءَيْنِ كَمَا تَرَى، وَجَعَلَ جَزَاءَ الْمُتَوَكِّلِ عَلَيْهِ كَوْنُهُ سُبْحَانَهُ حَسْبَهُ وَكَافِيهِ.
وَمِنْهَا: أَنَّ الشَّهِيدَ لَمَّا بَذَلَ حَيَاتَهُ لِلَّهِ أَعَاضَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ حَيَاةً أَكْمَلَ مِنْهَا عِنْدَهُ فِي مَحَلِّ قُرْبِهِ وَكَرَامَتِهِ.
وَمِنْهَا: أَنَّ مَنْ بَذَلَ لِلَّهِ شَيْئًا أَعَاضَهُ اللَّهُ خَيْرًا مِنْهُ.
وَمِنْهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ}.
وَمِنْهَا: قَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ الْقُدْسِيِّ مَنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي، وَمَنْ ذَكَرَنِي فِي مَلَأٍ ذَكَرْتُهُ فِي مَلَأٍ خَيْرٍ مِنْهُ.
وَمِنْهَا: قَوْلُهُ مَنْ تَقَرَّبَ مِنِّي شِبْرًا تَقَرَّبْتُ مِنْهُ ذِرَاعًا الْحَدِيثَ.
فَالْعَبْدُ لَا يَزَالُ رَابِحًا عَلَى رَبِّهِ أَفْضَلَ مِمَّا قَدَّمَ لَهُ، وَهَذَا الْمُتَقَرِّبُ بِقَلْبِهِ وَرُوحِهِ وَعَمَلِهِ يَفْتَحُ عَلَيْهِ رَبُّهُ بِحَيَاةٍ لَا تُشْبِهُ مَا النَّاسُ فِيهِ مِنْ أَنْوَاعِ الْحَيَاةِ، بَلْ حَيَاةُ مَنْ لَيْسَ كَذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى حَيَاتِهِ، كَحَيَاةِ الْجَنِينِ فِي بَطْنِ أُمِّهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى حَيَاةِ أَهْلِ الدُّنْيَا وَلَذَّتِهِمْ فِيهَا، بَلْ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ.
فَهَذَا نَمُوذَجُ مَنْ بَايَنَ شَرَفَ هَذِهِ الْحَيَاةِ وَفَضْلَهَا، وَإِنْ كَانَ عِلْمُ هَذَا يُوجِبُ لِصَاحِبِهِ حَيَاةً طَيِّبَةً، فَكَيْفَ إِنِ انْصَبَغَ الْقَلْبُ بِهِ، وَصَارَ حَالًا مُلَازِمًا لِذَاتِهِ؟ فَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ.
فَهَذِهِ الْحَيَاةُ: هِيَ حَيَاةُ الدُّنْيَا وَنَعِيمُهَا فِي الْحَقِيقَةِ، فَمَنْ فَقَدَهَا فَفَقْدُهُ لِحَيَاتِهِ الطَّبِيعِيَّةِ أَوْلَى بِهِ.
هَذِي حَيَاةُ الْفَتَى فَإِنْ فُقِدَتْ ** فَفَقْدُهُ لِلْحَيَاةِ أَلْيَقُ بِــهِ

فَلَا عَيْشَ إِلَّا عَيْشَ الْمُحِبِّينَ، الَّذِينَ قَرَّتْ أَعْيُنُهُمْ بِحَبِيبِهِمْ، وَسَكَنَتْ نُفُوسُهُمْ إِلَيْهِ، وَاطْمَأَنَّتْ قُلُوبُهُمْ بِهِ، وَاسْتَأْنَسُوا بِقُرْبِهِ، وَتَنَعَّمُوا بِحُبِّهِ، فَفِي الْقَلْبِ فَاقَةٌ لَا يَسُدُّهَا إِلَّا مَحَبَّةُ اللَّهِ وَالْإِقْبَالُ عَلَيْهِ وَالْإِنَابَةُ إِلَيْهِ، وَلَا يُلَمُّ شَعَثُهُ بِغَيْرِ ذَلِكَ أَلْبَتَّةَ، وَمَنْ لَمْ يَظْفَرْ بِذَلِكَ: فَحَيَاتُهُ كُلُّهَا هُمُومٌ وَغُمُومٌ، وَآلَامٌ وَحَسَرَاتٌ، فَإِنَّهُ إِنْ كَانَ ذَا هِمَّةٍ عَالِيَةٍ تَقَطَّعَتْ نَفْسُهُ عَلَى الدُّنْيَا حَسَرَاتٍ، فَإِنَّ هِمَّتَهُ لَا تَرْضَى فِيهَا بِالدُّونِ وَإِنْ كَانَ مَهِينًا خَسِيسًا، فَعَيْشُهُ كَعَيْشِ أَخَسِّ الْحَيَوَانَاتِ، فَلَا تَقَرُّ الْعُيُونُ إِلَّا بِمَحَبَّةِ الْحَبِيبِ الْأَوَّلِ.
نَقِّلْ فُؤَادَكَ حَيْثُ شِئْتَ مِنَ الْهَـوَى ** مَا الْحُبُّ إِلَّا لِلْحَبِيبِ الْأَوَّلِ

كَمْ مَنْزِلٍ فِي الْأَرْضِ يَأْلَفُهُ الْفَتَــى ** وَحَنِينُهُ أَبَدًا لِأَوَّلِ مَنْــزِلِ